الجمعة، 12 أبريل 2013

قيام الدولة العثمانية ( 2 )


قيام الدولة العثمانية
ظلت مشكلة قيام الدولة العثمانية مختلطة بالأساطير ، حتى قام المؤرخ التركي الشهير محمد فؤاد كوبريلي بنفيها ، وكان أول من توصل إلى دراسة هذه المشكلة عن طريق دراسة الحياة الاجتماعية في الأناضول قبل قيام الدولة العثمانية ، وخلال الفترة الأولى لقيامها . وهكذا قام بدراسة الهجرات الأثنوغرافية والحضارية في الأناضول ، مع دراسة المجتمع البدوي والمجتمع القروي ومجتمع المدن ، كما قام بدراسة طوائف أرباب الحرف والطرق الصوفية .
وأدت هذه الدراسة إلى أنه قرر المؤلف أن الدولة العثمانية كانت (دولة من دول أمراء الطوائف) ، لكنها استطاعت بفضل موقعها الجغرافي ، وبشخصية سلاطينها الأوائل ، وبنظمها الإدارية المحكمة أن تتطور لتصبح إمبراطورية .
يعرض القسم الأول من الكتاب لمشكلة تأسيس الدولة العثمانية وتحقيقها ، فيبدأ المؤلف بطرح سؤاله الهام : قام الغزاة من مغول فارس بتقويض أركان دولة سلاجقة الروم في القرن الثالث عشر ، فكيف قام في القرن التالي تنظيم سياسي جديد في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحدود البيزنطية السلجوقية ؟ وكيف تحول هذا التنظيم في أقل من مائة عام إلى دولة قوية تحكم البلقان وجزءا كبيرا من أناضول السلاجقة ؟ ويخلص في النهاية إلى اعتبار أن ظهور الدولة العثمانية يعد مشكلة من مشكلات تاريخ العصور الوسطى ، وبالنظر إلى النتائج الهائلة التي نجمت عن هذا الحدث التاريخي .
ويتناول المؤلف في القسم الأول من كتابه (نظرية جيبونز) في تأسيس الدولة العثمانية بالعرض والنقد ، ثم يقدم وجهة نظره لكيفية دراسة مشكلة التأسيس ، دراسة علمية . فيذكر أن جيبونز قدم تعليلات سديدة مثال ذلك قوله أن الدولة العثمانية لم تستطع توسيع ممتلكاتها في الأناضول إلا بعد غزو شبه جزيرة البلقان .
وقوله أيضا أن فتح العثمانيين للبلقان لم يكن غزوا يقصد فقط إلى التدمير والسلب ، لكنه كان عملية توطين تنفذ حسب خطة موضوعة بالفعل . إلا أنه لا يمكن الاتفاق معه في آرائه الأخرى التي تذكر أن أرطغرل أبو عثمان الذي تنسب إليه الدولة هو رئيس قبيلة صغيرة وفدت إلى الأناضول في عهد السلطان السلجوقي علاء الدين الأول فارّة من خوارزم أمام زحف جنكيزخان ، فاستقرت في شمال غرب الأناضول . ولما عاشوا في بيئة إسلامية ، فقد دخلوا الإسلام كأبناء جلدتهم من الأتراك السلاجقة . ثم أرغموا جيرانهم البيزنطيين على الدخول في الإسلام ، وتفسير زيادة إعداد بني عثمان لا يتم إلا بذوبان العنصر المحلي من البيزنطيين .
والرأي الأخير الذي يعرضه المؤلف لجيبونز يذكر أن نصار البلقان الذين دخلوا تحت سيطرة الحكم العثماني لم يعيشوا قرونا طويلة إلى جوار المسلمين مثل نصارى الأناضول ، فابتدع العثمانيون في عهد مراد الأول طرقا جديدة لإدخالهم في الإسلام ، مثل نظام (الدوفشرمه) ، فقد كانت العناصر البيزنطية والصقلية في البلقان تفضل أن تدخل الإسلام على أن تسلم أبناءها للعثمانيين .
ويذكر الأستاذ كوبريللي أن نظرية جيبونز التي تحاول جاهدة إرجاع قيام الدولة العثمانية إلى (سبب ديني خالص) ، والتي تعتقد أن الدخول في الدين الجديد أظهر جنسا جديدا هو (الجنس العثماني) ، هي نظرية لا تصمد طويلا لأن إرجاع واقعة تاريخية لها هذه الخطورة إلى العامل الديني وحده ، إنما هو تعليل من جهة واحدة وأنه _ حتى إذا احتوت على حقيقة جزئية _ يظل قاصرا دائما وغير مقنع أمام تعقد الحقيقة التاريخية . ويقوم المؤلف بنقد نظرية جيبونز عن تحول عثمان إلى الإسلام ، عن طريق تفسيره لأحد الأساطير التي تذكر أن عثمان قضى ليلة في دار أحد الزهاد المسلمين ، ورأى القرآن الكريم على أحد الأرفف ، فظل عثمان يقرأ الكتاب حتى الصباح ، ثم نام ورأى فيما يرى النائم كأن ملاكا يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم لقاء احترامه للقرآن . كذلك اعتمد جيبونز على أسطورة أخرى تذكر أن عثمان طلب من الشيخ "اده بالى" أن يزوجه ابنته إلا أن الأخير رفض ذلك لمدة عامين ، وفي إحدى الليالي رأى عثمان وهو نائم في بيت الشيخ كأن قمرا يخرج من صدره اده بالى ويقع في صدره ، ثم تخرج من سرته شجرة يغطي ظلها الأرض كله . وقام اده بالى بتأويل الرؤيا بأن عثمان سوف تحكم العام كله .
ويتوقف المؤلف عند هذه الأساطير ليرفض اعتماد جيبونز عليها ، ويؤكد على ضرورة النقد الداخلي للحوليات القديمة ، مع التزام كامل جوانب الحذر عند استعمال المعلومات التي توردها الحوليات العثمانية بخصوص هذه العهود المتقدمة . ويدلل المؤلف على رفضه لهذه الأسطورة إلى تواتر روايات أخرى في عدة مصادر تعالج فترة الأناضول في العصور الوسطى ، من ذلك وجود رواية مشابهة تماما في طبقات "ناصري" للجرجاني وهو من مؤرخي القرن الثاني عشر الميلادي . تتعلق بميلاد فاتح الهند "محمد الغزنوي" ، وكذلك في كتاب رشيد الدين "جامع التواريخ" في بلاط الإيلخانين في القرن الرابع عشر ، حيث نرى في الجزء الخاص بتاريخ الغزو وجها آخر لأسطورة الشجرة التي تُرى في الحلم .
ويخلص المؤلف إلى أن جيبونز لم يقف جيدا على الأحوال الدينية في الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي مما جعله يعتمد على آراء متهافتة مثل اعتماده على أسطورة حلم عثمان السابقة ، كذلك زعمه أن قبيلة عثمان إحدى القبائل الهاربة أمام جنكيز خان غير حقيقي ، لأنه اعتمد على كتب الحوليات العثمانية غير الجديرة بالثقة ، وعجز عن تقييم هذه المصادر كما ينبغي .
ويقدم المؤلف تفسيره لزيادة أعداد العثمانيين وإدارتهم القوية بعيدا عن آراء جيبونز السابقة التي أرجعت الفضل في ذلك للسكان البيزنطيين ، فيذكر الأستاذ كوبريلي أن هذا لا يمت للحقيقة بصلة ، فقد كان المسيحيون الداخلين في الإسلام من أسرة كوسة ميخائيل نادرين جدا بين رجالات الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر ، والنصف الأول من القرن الخامس عشر ، كما كانت البيروقراطية تستمد أصولها من التقاليد السلجوقية والإيلخانية ، وتؤكد الوثائق أن كبار رجال الإدارة والجيش يكادون جميعا من الترك .
كما ينفي المؤلف قول جيبونز بأن العثمانيين وضعوا نظام الدوفشرمه خصيصا لنشر الإسلام في البلقان ، ويصفه بأنه قول فردي متعسف لا يتفق مع الوقائع التاريخية . ويعود المؤلف ليتفق مع الآراء التي تذكر فضل طائفة الأخيان (التي تحدث ابن بطوطة عن أهميتها الاجتماعية في الأناضول في القرن الرابع عشر ) في لعب الدور الأهم في تأسيس الدولة العثمانية .
وبعد ذلك يضع الأستاذ كوبريلي تصوره لكيفية دراسة المشكلة دراسة علمية ، وذلك بضرورة الإجابة الصحيحة عن تلك الأسئلة الهامة : إلى أي بطن ينتمي مؤسس الدولة العثمانية ؟ متى كان استقرارهم شمال غرب الأناضول ؟ ما هو وضعهم الاجتماعي ؟ ومجموعة الأسئلة الخاصة بالأثنوغرافيا وتاريخ الديانات وتاريخ القانون والتاريخ الاقتصادي. 
وفي نهاية الفصل الأول يرى المؤلف أن الجواب الحقيقي على هذه الأسئلة يكمن في إعادة قراءة ونقد المصادر الإسلامية الخاصة بالأناضول في القرن الرابع عشر ، لأنها على الرغم من كونها محدودة جدا _ فإنها لم تستعمل إلا قليلا مثل "الحوليات الفارسية" للأقصراني ت 732 هـ /1332 م ، "الولد الشفيق" للقاضي أحمد النيكيري 733 هـ / 1232 م ، وكتاب "الحوليات الكبير" لعزيز بن أردشير الأسترأباذي (بزم ورزم) ، وكذلك "سلجوقنامه" لنظام الملك ، وكتاب "تواريخ آل عثمان" ، وكذلك كتاب "تاريخ عاشق باشا" . كما يرى أن منهج دراسة هذه الأعمال يجب أن يعتمد على إخضاعها للنقدين الداخلي والخارجي ، طبقا للمنهج التاريخي ، مع دراسة التركيب الطبقي لأتراك الأناضول لمعرفة موروفولوجيا مجتمعهم ، ودراسة تطور نظمهم الدينية والتشريعية والاقتصادية والفنية .
ويتناول المؤلف في القسم الثاني من الكتاب الأحوال السياسية والاجتماعية في الأناضول في القرن الثالث عشر ، والنصف الأول من القرن الرابع عشر ، مع تذكيره بأنه سوف يقوم بالتركيز على الجانب الاجتماعي للوصول إلى إجابات لأسئلة التي طرحها سابقا.
ويستهل الفصل بذكر أكبر حدثين في التاريخ السياسي للأناضول تلك الفترة ، وهما إمبراطوريتين بيزنطينيتين نتيجة نجاح الحملة الصليبية الرابعة في غزو القسطنطينية 1204 ، وهما (إمبراطورية نيقية) في مدينة نيقية ، و (إمبراطورية طرابزون) على البحر الأسود .
كذلك فإن دولة سلاجقة الروم بلغت أوج قوتها في النصف الأول للقرن الثالث عشر أيام علاء الدين كيقباذ الأول ، واستولت لأهداف اقتصادية على الكثير من المدن الحصينة بالساحل الغربي للأناضول 
كذلك قامت بغزو موانئ القرم ، وشنت غارات تأديبية على أرمينية الصغرى . واستولت في شرق الأناضول على مناطق هامة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري ، ووقفت أمام دولة جلال الدين خوارزم شاه بأذربيجان وإيران , وأقامت بالداخل العديد من المؤسسات الخيرية والمرافق.
كما قامت علاقة طيبة بين سلاجقة الروم وإمبراطورية نيقية البيزنطية ، وبفضل توجهات السلاجقة الشرقية ، وتوجه أباطرة نيقية نحو الغرب لاستعادة القسطنطينية مرة أخرى ، استمر التوازن السياسي على الحدود السلجوقية البيزنطية في القرن الثالث عشر ، واختل هذا التوازن من الناحية الأثنوغرافية في القرن الرابع عشر لغير صالح البيزنطيين بسبب الغزو المغولي للأناضول في القرن الثالث عشر .
ولم يكن مغول (القبيلة الذهبية) بمنأى عن أحداث الأناضول ، فقد تحالفوا مع (المماليك) وبدؤوا في القرن الثالث عشر الميلادي في الضغط على البلقان وعلى السياسات البيزنطية .
وبينما كانت دولة سلاجقة الروم آخذة في الاضمحلال بتأثير الظروف الداخلية والخارجية ، كانت قوى تركية جديدة تتبلور في الأناضول ، وأقدم هذه القوى وأشدها بأسا هي دولة (أبناء قرمان) غربي كيليكيا . وكذلك إمارة (أولاد كرميان) ، التي ظهرت بتأثير عوامل كثيرة تمخض عنها الاحتلال المغولي . ولم تكن الإمارات الأخيرة مجرد تشكيلات سياسية نجمت فجأة في أوائل القرن الرابع عشر على أنقاض الدولة السلجوقية كما كان يظن ، لكنها قوى محلية أفادت من تفكك الإدارة الإيلخانية وتسامحها ، فظهرت بالتدريج في النصف الثاني من القرن الثالث عشر .
ومن الناحية الأثنوغرافية ، فقد وفدت عشائر تركية على الأناضول قبل الغزو المغولي وبعده ، وتم تسكينها في مناطق خاصة بها ، وجملت هذه العشائر إلى مواطنها الجديدة أسماء كثير من القرى والجبال والأنهار الموجودة في وطنهم الأم . وبدأ سكان هذه العشائر التركية ينثالون على الأناضول تحت حماية السلاجقة بعد انتصارهم في "ملاذكرد" ، وأمر سليمان مؤسس دولة سلاجقة الروم بإسكانهم في سهوب وسط الأناضول ، وكذلك بعض الأماكن شمال غربي وجنوب شرقي الأناضول وكانت الدولة السلجوقية تعمد في عملية التوطين هذه إلى أكبر العشائر وأقواها ، فتقوم بتقسيمها إلى عدة أقسام وتسكنها قي أماكن بعيدة عن بعضها ، دفعا لخطر العصيان الذي يمكن أن يعلنه أي تكتل أثنوغرافي قوي، ولا شك أن السلاجقة كانوا يرمون إلى تحطيم التساند القبلي وتمهيد الطريق العام أمام التكون القومي لصالح الأسرة السلجوقية .
ويستمر المؤلف في تتبع العامل الأثنوغرافي ، فيذكر أن الكتل التركية الكثيفة التي تدفقت بعد ذلك على الأناضول بعد ظهور المغول ، ثم ازدادت بعد قيام الحكم الإيلخاني به ، قد ازدادت من أغلبية السكان الترك في الأناضول ، ويستند لإبراز وجهة نظره إلى ما ذكره "ماركو بولو" عن الوضع الأثنوغرافي في أناضول القرن الثالث عشر كما يشير إلى أن الترك _ وقد زادت كثافتهم _ كان لا بد لهم أن يزحفوا خارج الأناضول ، ونحو الغرب بحثا عن أماكن جديدة للاستيطان ، ولم تكن بيزنطة من القوة بحيث تحمي حدودها ، ودخلت بعض العناصر البدوية الباحثة عن المراعي أراضي الدولة البيزنطية ، والتحق البعض منهم بخدمة البيزنطيين.
وهكذا قام المؤلف بإيضاح أهم العوامل المورفولوجية لتضييق الترك على البيزنطيين أواخر القرن الثالث عشر وإبان القرن الرابع عشر ، وذلك التضييق الذي حمل البيزنطيين فألقى بهم بعيدا عن آخر ما احتفظوا به من الأراضي غرب الأناضول .
ويقوم المؤلف بتقسيم مجتمع أتراك الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي إلى ثلاث مجتمعات : البدو ، وأهل القرى ، وأهل المدن . فكان البدو يزاولون الزراعة لكنهم عاشوا أساسا على تربية الحيوان والخيل وصناعة السجاجيد الأناضولية وكانوا يغيرون على القرى المجاورة ، وكان عليهم أداء الضريبة العينية للدولة من القطعان التي يملكونها ، وجرى إعفاء العشائر التي أقطعت المشاتي والمصايف في مناطق الحدود لغايات عسكرية . أما عشائر التركمان فكانت أنقى العناصر التي تمثل القومية التركية ، ولم تكن تعترف بأي نظام اجتماعي غير نظامها العشائري المغاير لمفهوم النظام في الدولة ، وكانت لا تنصاع لقانون وتنظر لأهل القرى والمدن باستخفاف ، فإن وجدت خللا في نظام الإدارة قامت بالهجوم على القرى المكشوفة والمدن الضعيفة الدفاع ، وقوافل التجارة ، وأعملت السلب والنهب ، ومع أن هذه العشائر التركية كانت مسلمة بوجه عام فإنها لم تكن متمسكة بالإسلام بل كانت أكثر إتباعا لتقاليدها المتوارثة التي يغطيها طلاء إسلامي سطحي ، وكانت خاضعة لرؤساء من (غلاة الشيعة) وهم في حقيقة الأمر امتداد للشامانات الترك تعلوهم مسوح إسلامية . ( يتبع )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق