الاثنين، 19 نوفمبر 2012

مكانة السيرة النبوية






فإن السنة النبوية المطهرة تمثِّل - ولا شك - إلى جانب القرآن الكريم أسس الدين الإسلامي وقاعدته الأساسية، التي لا يستقيم للدين أمر، ولا فهم، ولا فقه دونها، فبدون السنة النبوية المطهرة تضيع السيرة، وتفقد القدوة، وتنقطع الرسالة، وتبهم معاني الكتاب، ويقضى على فقه الدين.
وإذا كان الأمر كذلك فإن البحث في السنة وحجّيّتها ومنزلتها ومكانتها يعدّ أمرًا بالغ الأهمية في بنية الفكر الإسلامي، وتكوين العقلية المميزة للأمة الإسلامية، خصوصًا إذا ما تصوّرنا حجم الهجمة الشرسة وما ينصبه أعداء الأمة في الداخل والخارج من مكائد، وما يراد للأمة من مسخ لشخصيتها، ومحاولات لا تتوقف يراد بها صرف الناس وإعراضهم عن هدي النبوة، والتخلّص من الأحكام الثابتة بها، والبعد عن أضوائها وأنوارها، مرةً بادعاء عدم حجية بعض أنواعها، ومرةً بزعم أن ما ورد فيها - غير مبين للكتاب - فإن الناس ليسوا مطالبين به، ومرةً بالطعن بِحَمَلَتِهَا الأَوَّلِين ورواتها الأقدمين، ونفي العدالة عنهم، ومرةً بادعاء أنها - أي السنة - لا تعدو أن تكون توجيهات، ونصائح، وآداباً غير ملزمة للمسلم أن يعمل بها، وله أن يتخلى عنها، مستدلين لمذاهبهم الفاسدة، وآرائهم الخبيثة الكاسدة بأوهى المقالات، وأضعف الشبهات، وأتفه الخيالات.
وبعضهم يزعم: أن ما جاءت به السنة لا ينبغي أن يعمل به إلا بعد معرفة سائر ظروف وروده، وأسباب ظهوره، وسائر ما يمكن أن يكون له أثر في دلالته عندهم، وأن السنة إذا دلت على حكم لم يدل القرآن عليه لم يؤخذ بها، وأن الحديث يجب أن يعرض على عقولهم الجامدة، فإن تلقته تلك العقول القاصرة، والأفئدة المريضة بالقبول صحّ وعمل به، وإن أغلقت عقولهم الكليلة دونه أبوابها فليترك وليهمل.
لقد نسي هؤلاء الحمقى - أو تناسوا - أن سنة رسول الله أصل دلّ عليه كتاب الله, وأن الأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ بل يحكّمه المؤمنون ويقبلونه، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما دل عليه، ويسلِّمون له تسليمًا تامًا، وينقادون لدلالته انقيادًا كاملاً"(1).
إن هؤلاء بموقفهم هذا يظلمون أنفسهم، ويظلمون الناس؛ لأنهم خالفوا وشرعوا المخالفة، إذ بدل أن يكونوا محكومين جعلوا من أنفسهم حاكمين، بل ومشرعين؛ لأنهم شرعوا لأنفسهم - حين رفضوا السنة أو شككوا فيها - رفض الدين، وقبول إيحاء الشيطان الرجيم، وهذا هو الضلال المبين.
قال تعالى: (وَمَا كَان لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى الْلَّه وَرَسُوْلُه أَمْرا أَن يَكُوْن لَهُم الْخِيَرَة مِن أَمْرِهِم وَمَن يَعْص الْلَّه وَرَسُوْلَه فَقَد ضَل ضَلَالَا مُّبِيْنا()) [الأحزاب:36].
وقال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُوْن حَتَّى يُحَكِّمُوْك فِيْمَا شَجَر بَيْنَهُم ثُم لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوْا تَسْلِيْما))[ النساء:65].
وقال - صلى الله عليه وسلم -أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني
الراوي: - المحدث: الشوكاني - المصدر: السيل الجرار - الصفحة أو الرقم: 2/141
خلاصة حكم المحدث: ثابت صحيح
: )(2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلّتت منهم فلم يعوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا"(3).

الراوي: عمرو بن الحارث المحدث: ابن القيم - المصدر: أعلام الموقعين - الصفحة أو الرقم: 1/64
خلاصة حكم المحدث: إسناده في غاية الصحة

لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟.
إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل على حفظ كيان الإسلام، وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام(4).
إذ السنـة بما تضمنته من أقوال وأفعال وتقريرات وصفـات للنبي - صلى الله عليه وسـلم - ترسـم " المنهاج التفصيلي" للحياة الإسلامية: حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، في الدولة المسلمة.
وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة، والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بدّ منها، فإن السنة تفصِّل ما أجمله القرآن الكريم، وتبيِّن ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته.
ومن هنا نجد في السنة تفصيلات الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والحياة البرزخية مما يتعرض له المكلفون بعد الموت في قبورهم من سؤال وامتحان، ونعيم أو عذاب، وأهوال البعث والنشور، والموقف في الشفاعة العظمى، والحساب الإلهي، وما يتبعه من أخذ الصحف، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وإقامة الصراط، وما أعد الله في الجنة لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أعدّ في النار لمن عصاه من ألوان العذاب الحسّي والمعنوي، كل هذا قد فصّلته السنة حتى كأنه رأي عين.
ونجد في السنة تفصيلات العبادات الشعائرية التي تمثِّل جوهر التدين العملي كالعبادات الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج، سواء ما كان منها فرضًا لازمًا كالصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة من كل أسبوع، والزكاة المفروضة كل حول أو كل حصاد، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت مرةً في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً... وما كان منها من باب التطوع.
فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة، نجد السنة حافلةً بكتبها وأبوابها الجَمَّة، من مقدماتها: الطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، ومسح الخفين... الخ... ولواحقها: الأذان، والإقامة، والجماعة، والإمامة، وبيان مواقيتها، وأعدادها، وكيفيتها، وأركانها، وسننها ومبطلاتها، وبيان أنواعها مما هو فرض، وما هو نفل مؤكد كالسنن الرواتب، والوتر، وما ليس كذلك كقيام الليل وصلاة الضحى، وما يصلى في جماعة وما ليس كذلك، وما يؤدى مرةً أو مرتين في السنة كصلاة العيدين، وما يؤدى بأسباب عادية كالكسوف والاستسقاء، أو خاصةً كالاستخارة.
وإذا جئنا إلى الزكاة نجد بيان الأموال التي تجب فيها، ونُصبها، ومقادير الواجب في كل منها، ومتى تجب، ولمن تجب؟.
ومثل ذلك يقال في الصيام والحج والعمرة، فالسنة هي التي فصّلت أحكامها تفصيلاً.
وهذه العبادات قد احتلّت من كتب السنة حيزًا كبيرًا، حتى إنها في كتاب مثل: " الجامع الصحيح للبخاري" تقدّر بنحو الربع.
فإذا أضفنا إليها ما يتعلق بالأذكار والدعوات وتلاوة القرآن - وهي لا شك جزء من العبادات - تبيّن لنا مقدار احتفال السنة بها، وقد ختم البخاري جامعه بحديث منها(5).
ونجد في السنة توجيهات مفصلة للأخلاق الإسلامية، التي بعث الله رسوله ليتمِّمَها وهي تشمل الأخلاق الإنسانية التي لا تقوم الحياة الفاضلة إلا بها، وقد اعتبرتها السنة من شعب الإيمان، ومن فضائل المؤمنين، كما اعتبرت أضدادها من آيات النفاق، ورذائل المنافقين، وذلك كالصدق والأمانة، والسخاء والشجاعة، والوفاء والحياء، والرفق والرحمة، والعدل والإحسان، والتواضع والصبر، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، وبِرّ الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، ورعاية اليتيم، والمسكين، وابن السبيل.
كما تشمل ما نسمِّيه " الأخلاق الربانية" التي هي قوام الحياة الروحية كمحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والورع عن المحارم والزهد فيها عند الناس، والرغبة فيما عند الله... إلى غير ذلك من الأخلاق والمقامات التي عني بها الصادقون من رجال التصوف، حتى قالوا: التصوف هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، فقد زاد عليك في التصوف.
ونجد في السنة كذلك تفصيلات الآداب الإسلامية، التي تتصل بالحياة اليومية للإنسان المسلم، ويتكوّن منها الذوق المشترك، والأدب المشترك للأمة الإسلامية.
وذلك مثل أدب الأكل والشرب، والجلوس والمشي، والتحية والسلام، والزيارة والاستئذان، والنوم واليقظة، واللباس والزينة، والكلام والصمت، والاجتماع والافتراق.
فالمسلم عندما يأكل أو يشرب يُسمِّي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، ويأكل مما يليه، ويقتصد في أكله، ويحمد الله إذا فرغ من طعامه.
وهكذا نجد السنة النبوية تضع للمسلم مجموعةً مفصّلةً من الآداب المحدَّدة في سلوكه اليومي، تنشأ منها تقاليد مشتركة، تميِّز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، كما تجعل للفرد المسلم شخصية مستقلة متميزة في مظهرها ومخبرها تستعصي على الذوبان في غيرها.
ونجد في السنة كذلك تفصيلاتٍ لتكوين الحياة الأسرية على أساس مكين، وتنظيم علاقاتها، وضبط سيرها، وحمايتها من عوامل التفكك والانهيار، والتوجيه إلى الوسائل اللازمة للمحافظة عليها، وما يلزم كِلا الطرفين عند تعذر الوِفاق، ووقوع الطلاق، فنجد في السُنّة عنايةً بالغةً بحسن اختيار الزوج أو الزوجة، والخطبة وأحكامها، والزواج وآدابه، وحقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والنفقات، وحق الأولاد على والديهم، وحق الوالدين على أولادهم، وحق ذوي القربى من المحارم والعصبات... إلى غير ذلك مما يقوم عليه " فقه الأسرة"، أو ما يسمى " الأحوال الشخصية".
ونجد في السنة كذلك أحكامًا وفيرةً تتعلق بالمعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم وبعض، مثل أحكام البيع والشراء، والهبة والقرض، والمشاركة والمضاربة، والإجارة والإعارة، والكفالة والحوالة، والرهن والشفعة، والوقف والوصية، والحدود والقصاص والشهادات وغيرها، مما استند إليه فقه " المعاملات".
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الحكّام والمحكومين، في الشؤون الإدارية والمالية والقضائية وغيرها، مما استمدت منه كتب " السياسة الشرعية"، وكتب " الأموال"، و"الخراج" ونحوها.
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرسم الإطار لعلاقة المسلمين بغير المسلمين في السِّلم وفي الحرب. وهذا ما يقوم عليه فقه " السير" أو " الجهاد"(6).
وللإمام ابن القيم كلام نفيس رائع عن الهدي النبوي الذي جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر للأمة منه علمًا، الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: البزار - المصدر: البحر الزخار - الصفحة أو الرقم: 9/341
خلاصة حكم المحدث: [فيه] منذر الثوري لم يدرك أبا ذر


وعلَّمَهم كل شيء حتى آداب التخلي - أي آداب قضاء الحاجة - وآداب الجماع، والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأي عين، وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم، وما جرى عليهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر، دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب، للروح والبدن، ما لم يُعرِّف به نبي غيره، وكذلك عرَّفهم من أدلة التوحيد، والنبوة، والمعاد، والردّ على جميع أهل الكفر والضلال، وعرَّفهم من مكايد الحروب، ولقاء العدو، وطرق النصر والظفر، ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته، لم يقم لهم عدو أبدًا - أي لم يثبت أمامهم عدو - وكذلك عرَّفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها، وما يتحرزون به من مكره وكيده، وما يدفعون به شره عن أنفسهم ما لا مزيد عليه.

وبالجملة: فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بأكمله، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فشريعته كاملة، ما طرق العالمَ شريعة أكمل منها"(7).




منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق